* كثيرون هم الذين يطمحون بالسلام، بلْ ويعملون لمقاومة ظاهرة الحرب والاحتراب والنـزاع المسلح في العلاقات البشرية والدولية، ويحلمون بتحقيق المجتمع الإنساني الذي يسوده السلم والسلام والإخاء والمحبة. مؤسسات ومنظمات رسمية، وغير رسمية، دولية، محلية، إقليمية تصبو لإحلال السلام، وفضّ النـزاعات بالطرق السلمية. لكن النتائج ميدانياً محدودة، وما أدل على ذلك مِن موجة الإرهاب التي كادت تفرض شبحها على كل شيء، وفي كل مكان. لماذا!؟ والحال أن العنف ليس بجديد، فهو قديم قدم الإنسان، والعالم، والكلُّ يعرف قصة قابيل الذي قتلَ أخاه هابيل والحوار الذي دار بينهما: ﴿لئن بَسَطتَ إليَّ يدكَ لِتقتُلني ما أنا بباسطٍ يَديَ إليكَ لأقتُلَكَ إنّي أخافُ اللهَ ربَّ العالمينَ﴾. فظاهرة العنف قديمة جداً، ويجب أن تكون قد عولجت لأهوالها ومخاطرها وتداعياتها، ولذلك فلا يمكنني أن أتصور جورج سوريل هو أول مَنْ كتبَ في الغرب عن العنف في كتابه: تأملات حول العنف، ربما الأخير مِن الأوائل الذين عادوا إلى البحث في العنف. الإسلام والسلام: لعل الإسلام هو الدين الوحيد الذي عُني عناية فائقة بالدعوة إلى السلام وجعلها دعامته الأولى.. وقد تناول كتابه القرآن الكريم (السلم والسلام) في عشرات من آياته المحكمات. ليس ذلك فحسب، بل إن السلام اسم من أسماء الله تعالى وصفة من صفاته (هو الله الذي لا غله إلا هو الملك القدوس السلام)، وجعله تحيته إلى عباده، وأمرهم بأن يجعلوا السلام تحيتهم يلقيها بعضهم على بعض وشعارهم في جميع مجالات الحياة، في المسجد والمعهد والمصنع والمتجر.. وسمّى الجنّة دار السلام: ( والله يدعو إلى دار السلام)، لهم دار السلام عند ربهم: (دعواهم فيها سبحانك أللهم وتحيتهم فيها سلام). وجعله سبحانه وتعالى جزاء على رضوانه : (يهدي به الله من اتبع رضوانه سُبل السلام). والآيات التي تناولت السلام كثيرة، تتدرج من قوله تعالى: (سلام قولاً من رب رحيم)، (سلام على نوح في العالمين... سلام على إبراهيم... سلام على موسى وهارون... سلام على آل ياسين... وسلام على المرسلين)، إلى قوله عز من قائل: (سلام هي حتى مطلع الفجر)، (وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين)، إلى أن يقول: (فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعملون) . من هنا كان الإسلام شعار المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها منذ ظهور الإسلام حتى الآن. وهو شعار يُلقيه المسلم على صاحبه كلما لقيه وكلما انصرف عنه، فيقول له: (( السلام عليكم ))، ويلقيه المسلم كل يوم خمس مرات على الأقل في الصلوات المفروضة حين يصلي ويقرأ التحيات ويختم صلاته بقوله: ((السلام عليم ورحمة الله وبركاته)) مرتين، مرة ذات اليمين وأخرى ذات الشمال.. لا بد ـ إذن ـ أن يكون هذا الشعار الذي يردده المسلم كل يوم وكل ساعة، من أعظم القيم الدينية. وإذا كان السلام ـ كما أسلفنا ـ من أسماء الله الحسنى فما معنى هذا؟ يقول الغزالي في كتابه القيم ((المقصد الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى)): ((السلام هو الذي تسلم ذاته من العيب وصفاته من النقص وأفعاله من الشر، حتى إذا كان كذلك، لم يَكُن في الوجود سلامة إلا وكانت معزوة إليه صادرة منه. وقد فهمت أن أفعاله سالمة من الشر، أعني الشر المطلق المراد لذاته لا لخير حاصل في ضمنه أعظم منه، وليس في الوجود شيء بهذه الصفة. فالسلام، باعتباره اسماً من أسماء الله الحسنى، له قيمة مطلقة حتى إذا نزلنا إلى مرتبة البشر كان السلام نسبياً بالإضافة لا مطلقاً، وكانت قيمته الإنسانية أقل بطبيعة الحال من قيمته الإلهية )) . والعلة في ذلك، أن الإنسان تدفعه شهواته إلى النقص والشر.. ولذلك يضيف الغزالي مستطرداً بعد شرح اسم السلام: ((كل عبد سلم من الغش والحقد والحسد وإرادة الشر قلبه، وسلم من الآثام والمحظورات جوارحه، وسلم من الانتكاس والانعكاس صفاته، فهو الذي يأتي الله بقلب سليم )) . وهو السلام من العباد، القريب في وصفه من السلام المطلق الحق الذي لا ثنائية في صفته، وأعني بالانتكاس في صفاته أن يكون عقله أسير شهوته وغضبه إذ الحق عكسه، وهو أن تكون الشهوة والغضب أسير العقل وطوعه.. فإذا انعكس فقد انتكس. فإذا وعينا ذلك، عرفنا أننا مطالبون بأن نكون في صفاتنا قريبين من صفات الله، وترتفع قيمتنا كلما تدرجنا في سلم هذه الصفات، بحيث تكون أقرب شيء إلى الله تعالى. وكلما ابتعدنا عن تلك الصفات هبطت قيمتنا. نحن إذن ـ عندما نلقي بالتحية على غيرنا ـ إنما نُلقي اسماً من أسماء الله يحفظهم، وكأننا ندعو لهم أن يكونوا في صفاتهم قريبين من صفة السلام، وهي السلامة عن العيب والنقص: ( ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم لست مؤمناً). ومن هنا تنعقد الصلة بين السلام والإسلام. لقد قيل في تعريف الإسلام الشيء الكثير: قيل: إنه من الانقياد أو من الاستسلام، أي الانقياد إلى أوامر الله والاستسلام له تعالى باجتناب نواهيه.. ولكن هذا المعنى تصرف به كثير من المسلمين حتى خرجوا به عن معناه الأصيل وقيمته الحقيقية، وظنوا أن الاستسلام هو هذا السلوك السلبي الذي يهدر معنى الإنسانية، وأصبح الإسلام مجرد خضوع وخنوع. وقيل: إن الإسلام من السلامة والخلوص من الشوائب والنقص.. وهذه القيمة قريبة إن لم تكن مطابقة للمعنى الذي ذهب إليه الغزالي. وقيل : إن الإسلام من السلام الذي هو ضد العدوان.. سلام ـ أولاً- بين العبد وبين نفسه ثم سلام ـ ثانياً ـ بينه وبين الله تعالى ثم سلام ـ ثالثاً ـ بينه وبين غيره من الناس. وهذا المعنى الأخير يلائم المفاهيم الجارية في العصر الحاضر.. فالعالم يعيش في خوف وهم وقلق خشية الوقوع في حرب مدمرة تهلك الحرث والنسل، وهناك أمم تدعو إلى الحرب، وتعدّ لها العدة، وأخرى تنادي بالسلام. الإسلام دين يدعو إلى السلام ويضع هذه القيمة على رأس القيم التي فيها صلاح العالم وخيره والأخذ بيده. لقد قام الوطن الإسلامي الأول في ظل النبي العربي العظيم محمد بن عبد الله على أساس توافر هذه المقومات التي لم ينقص من أهميتها وأثرها في تكوين الوحدة الوطنية أن يكون لأبنائه يومئذ أكثر من دين واحد، نعم قامت دولة الإسلام الأولى. فإذا دستورها المثالي كما تقرره صحيفة الموادعة بين المسلمين واليهود، ببسط جناح الأمن والسلام والإخاء على أهل المدن جميعها بدرجة واحدة. مساواة تامة في الحقوق والواجبات، لا يلمح فيها ظل للتفريق بين المسلم صاحب الأكثرية والرياسة وبين اليهودي الذي يمثل الأقلية التابعة، فضلاً عن المسيحي الذي تشده إلى المسلم روابط وثيقة، لا يمكن لإنسان أن ينال منها فيظفر بفكاكها، فهي باقية خالدة على الأيام والدهر، لا تزعزعها الحوادث، ولا تنال منها الأحداث. آيات السلم وهناك مصداق آخر للاّعنف الذي يؤكّد عليه الإسلام العزيز وهوا لسلم والسلام، حيث إنّ الإسلام هو دين السلم وشعاره السلام.. فبعد أن كان الجاهليون مولعين في الحروب وسفك الدماء جاء الإسلام وأخذ يدعوهم إلى السلم والوئام ونبذ الحروب والمشاحنات التي لا ينجم عنها سوى الدمار والفساد.. على هذا الأثر فإنّ آيات الذكر جاءت لتؤكّد على مسألة السلم والسلام، فقد قال عزّ من قائل مخاطباً عباده المؤمنين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً). وقد دُعي الرسول الأعظم عليه أفضل الصلاة و السلام إلى الجنح للسلم إذا جنح إليه المشركون، فقال عزّ من قائلوَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) .وقال تعالى داعياً عباده المؤمنين إلى اعتزال القتال إثر جنوح المشركين إلى السلمفَإِنْ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمْ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلا). وقال عزّ وجلّ في صفات المؤمنينوَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَماً)
3 مشترك